فصل: ذكر وصول معز الدولة إلى واسط وعوده عنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر رحيل أبي يزيد عن المهدية:

لما تفرق أصحابه عنه، كما ذكرنا، اجتمع رؤساء من بقي معه وتشاوروا وقالوا: نمضي إلى القيروان، ونجمع البربر من كل ناحية، ونرجع إلى أبي يزيد، فإننا لا نأمن أن يعرف القائم خبرنا فيقصدنا؛ فركبوا ومضوا، ولم يشاوروا أبا يزيد، ومعهم أكثر العسكر، فبعث إليهم أبو يزيد ليردهم، فلم يقبلوا منه، فرحل مسرعاً في ثلاثين رجلاً، وترك جميع أثقاله، فوصل إلى القيروان سادس صفر، فنزل المصلى، ولم يخرج إليه أحد من أهل القيروان سوى عامله، وخرج الصبيان يلعبون حوله ويضحكون منه.
وبلغ القائم رجوعه، فخرج الناس إلى أثقاله، فوجدوا الطعام والخيام وغير ذلك على حاله، فأخذوه وحسنت أحوالهم، واستراحوا من شدة الحصار، ورخصت الأسعار، وأنفذ القائم إلى البلاد عمالاً يطردون عمال أبي يزيد عنها، فلما رأى أهل القيروان قلة عسكر أبي يزيد خافوا القائم، فأرادوا أن يقبضوا أب يزيد، ثم هابوه، فكاتبوا القائم يسألونه الأمان، فلم يجبهم.
وبلغ أبا يزيد الخبر، فأنكر على عامله بالقيروان اشتغاله بالأكل والشرب وغير ذلك، وأمره أن يخرج العساكر من القيروان للجهاد، ففعل ذلك، وألان لهم القول، وخوفهم القائم، فخرجوا إليه.
وتسامع الناس في البلاد بذلك، فأتاه العساكر من كل ناحية، وكان أهل المدائن والقرى لما سمعوا تفرق عساكره عنه أخذوا عماله فمنهم من قتل، ومنهم من أرسل إلى المهدية.
وثار أهل سوسة، فقبضوا على جماعة من أصحابه فأرسلوهم إلى القائم، فشكر لهم ذلك، وأرسل إليهم سبعة مراكب من الطعام، فلما اجتمعت عساكر أبي يزيد أرسل الجيوش إلى البلاد وأمرهم بالقتل والسبي والنهب والخراب وإحراق المنازل، فوصل عسكره إلى تونس، فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، فنهبوا جميع ما فيها، وسبوا النساء والأطفاء، وقتلوا الرجال، وهدموا المساجد، ونجا كثير من الناس إلى البحر فغرق.
فسير إليهم القائم عسكراً إلى تونس، فخرج إليهم أصحاب أبي يزيد، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر القائم هزيمة قبيحة، وحال بينهم الليل، والتجأوا إلى جبل الرصاص، ثم إلى اصطفورة، فتبعهم عسكر أبي يزيد، فلحقوهم واقتتلوا، وصبر عسكر القائم، فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير، وقتلوا، حتى دخلوا تونس خامس ربيع الأول وأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد بعد أن قتلوا أكثرهم، وأخذ لهم من الطعام شيء كثير.
وكان لأبي يزيد ولد اسمه أيوب، فلما بلغه الخبر أخرج معه عسكراً كثيراً، فاجتمع مع من سلم من ذلك الجيش، ورجعوا إلى تونس فقتلوا من عاد إليها وأحرقوا ما بقي فيها، وتوجه إلى باجة فقتل من بها من أصحاب القائم، ودخلها بالسيف وأحرقها، وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف.
واتفق جماعة على قتل أبي يزيد، وأرسلوا إلى القائم فرغبهم ووعدهم، فاتصل الخبر بأبي يزيد فقتلهم، وهجم رجال من البربر في الليل على رجل من أهل القيروان وأخذوا ماله وثلاث بنات أبكار، فلما اصبح واجتمع الناس لصلاة الصبح قام الرجل في الجامع وصاح وذكر ما حل به، فقام الناس معه وصاحوا، فاجتمع الخلق العظيم، ووصلوا إلى أبي يزيد فأسمعوه كلاماً غليظاً، فاعتذر إليهم ولطف بهم وأمر برد البنات.
فلما انصرفوا وجدوا في طريقهم رجلاً مقتولاً، فسألوا عنه، فقيل إن فضل بن أبي يزيد قتله وأخذ امرأته، وكانت جميلة، فحمل الناس المقتول إلى الجامع وقالوا: لا طاعة إلا للقائم! وأرداوا الوثوب بأبي يزيد، فاجتمع أصحاب أبي يزيد عنده ولاموه وقالوا: فتحت على نفسك ما لا طاقة لك به لا سيما والقائم قريب منا؛ فجمع أهل القيروان، واعتذر إليهم، وأعطاهم العهود أنه لا يقتل، ولا ينهب، ولا يأخذ الحريم، فأتاه سبي أهل تونس، وهم عنده، فوثبوا إليهم وخلصوهم.
وكان القائم قد أرسل إلى مقدم من أصحابه يسمى علي بن حمدون يأمره بجمع العساكر ومن قدر عليه من المسيلة، فجمع منها ومن سطيف وغيرها، فاجتمع له خلق كثير، وتبعه بعض بني هراس، فقصد المهدية، فسمع به أيوب بن أبي يزيد، وهو بمدينة باجة، ولم يعلم به علي ن حمدون، فسار إليه أيوب وكبسه واستباح عسكره، وقتل فيهم وغنم أثقالهم، وهرب عليٌ المذكور، ثم سير أيوب جريدة خيل إلى طائفة من عسكر المهدي خرجوا إلى تونس، فساروا واجتمعوا، ووقع بعضهم على بعض فكان بين الفريين قتال عظيم قتل فيه جمع كثير وانهزم عسكر القائم، ثم عادوا ثانية وثالثة، وعزموا على الموت، وحملوا حملة رجل واحد، فانهزم أصحاب أبي زيد وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأخذت أثقالهم وعددهم، وانهزم أيوب وأصحابه إلى القيروان في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
فعظم ذلك على أبي يزيد، وأراد أن يهرب عن القيروان، فأشار عليه أصحابه بالتوقف وترك العجلة، ثم جمع عسكراً عظيماً، وأخرج ابنه أيوب ثانية لقتال علي بن حمدون بمكان يقال له بلطة، وكانوا يقتتلون، فمرة يظفر أيوب، ومرة يظفر عليٌ، وكان عليٌ قد وكل بحراسة المدينة من يثق به، وكان يحرس باباً منها رجل اسمه أحمد، فراسل أيوب في التسليم إليه على مال يأخذه، فأجابه أيوب إلى ما طلب، وقاتل على ذلك الباب، ففتحه أحمد ودخله أصحاب أبي يزيد، فقتلوا من كان بها، وهرب عليٌ إلى بلاد كتامة في ثلاثمائة فارس وأربعمائة راجل، وكتب إلى قبائل كتامة ونقرة ومزاتة وغيرهم، فاجتمعوا وعسكروا على مدينة القسطنطينة.
ووجه عسكراً إلى هوارة، فقتلوا هوارة، وغنموا أموالهم، وكان اعتماد أبي يزيد عليهم، فاتصل الخبر بأبي يزيد، فسير إليهم عساكر عظيمة يتبع بعضها بعضاً، وكان بينهم حروب كثيرة والفتح والظفر في كلها لعلي وعسكر القائم، وملك مدينة تيجس ومدينة باغاية وأخذهما من أبي يزيد.

.ذكر محاصرة أبي يزيد سوسة وانهزامه منها:

لما رأى أبو يزيد ما جرى على عسكره من الهزيمة جد في أمره، فجمع العساكر وسار إلى سوسة سادس جمادى الآخرة من السنة، وبها جيش كثير للقائم، فحصرها حصراً شديداً، فكان يقاتلها كل يوم، فمرة له، ومرة عليه، وعمل الدبابات والمنجنيقات، فقتل من أقل سوسة خلق كثير وحاصرها إلى أن فوض القائم العهد إلى ولده إسماعيل المنصور في شهر رمضان، وتوفي القائم وملك الملك ابنه المنصور، على ما نذكره، وكتم موت أبيه خوفاً من أبي يزيد لقربه، وهو على مدينة سوسة.
فلما ولي عمل المراكب، وشحنها بالرجال، وسيرها إلى سوسة، واستعمل عليها رشيقاً الكاتب، ويعقوب بن إسحاق، ووصاهما أن لا يقاتلا حتى يأمرهما، ثم سار من الغد يريد سوسة، ولم يعلم أصحابه ذلك، فلما انتصف الطريق علموا فتضرعوا إليه، وسألوه أن يعود ولا يخاطر بنفسه، فعاد وأرسل إلى رشيق ويعقوب بالجد في القتال، فوصلوا إلى سوسة وقد أعد أبو يزيد الحطب لإحراق السور، وعمل دبابة عظيمة، فوصل أسطول المنصور إلى سوسة، واجتمعوا بمن فيها، وخرجوا إلى قتال أبي يزيد، فركب بنفسه، واقتتلوا، واشتدت الحرب، وانهزم بعض أصحاب المنصور حتى دخلوا المدينة، فألقى رشيق النار في الحطب الذي جمعه أبو يزيد، وفي الدبابة، فأظلم الجو بالدخان، واشتعلت النار.
فلما رأى ذلك أبو يزيد وأصحابه خافوا، وظنوا أن أصحابه في تلك الناحية قد هلكوا فلهذا تمكن أصحاب المنصور من إحراق الحطب إذ لم ير بعضهم بعضاً، فانهزم أبو يزيد وأصحابه، وخرجت عساكر المنصور، فوضعوا السيف فيمن تخلف من البربر، وأحرقوا خيامه.
وجد أبو يزيد هارباً حتى دخل القيروان من يومه، وهرب البربر على وجوههم فمن سلم من السيف مات جوعاً وعطشاً.
ولما وصل أبو يزيد إلى القيروان أراد الدخول إليها، فمنعه أهلها، ورجعوا إلى دار عامله، فحصروه، وأرادوا كسر الباب، فنثر الدنانير على رؤوس الناس فاشتغلوا عنه، فخرج إلى أبي يزيد، وأخذ أبو يزيد امرأته أم أيوب، وتبعه أصحابه بعيالاتهم، ورحلوا إلى ناحية سبيبة، وهي على مسافة يومين من القيروان، فنزلوها.

.ذكر ملك المنصور مدينة القيروان وانهزام أبي يزيد:

لما بلغ المنصور الخبر سار إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال من السنة، فنزل خارجاً منها، وسر بما فعله أهل القيروان، فكتب إليهم كتاباً يؤمنهم فيه، لأنه كان واجداً عليهم لطاعتهم أبا يزيد، وأرسل من ينادي في الناس بالأمان، وطابت نفوسهم، ورحل إليهم، فوصلها يوم الخميس لست بقين من شوال، وخرج إليه أهلها، فأمنهم ووعدهم خيراً.
ووجد في القيروان من حرم أبي يزيد وأولاده جماعة، فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق.
ثم إن أبا يزيد جمع عساكره، وأرسل سرية إلى القيروان يتخبرون له، فاتصل خبرهم بالمنصور، فسير إليهم سرية، فالتقوا واقتتلوا، وكان أصحاب أبي يزيد قد جعلوا كميناً، فانهزموا، وتبعهم أصحاب المنصور، فخرج الكمين عليهم، فأكثر فيهم القتل والجراح.
فلما سمع الناس ذلك سارعوا إلى أبي يزيد، فكثر جمعه، فعاد ونازل القيروان، وكان المنصور قد جعل خندقاً على عسكره، ففرق أبو يزيد عسكره ثلاث فرق، وقصد هو بشجعان أصحابه إلى خندق المنصور، فاقتتلوا، وعظم الأمر، وكان الظفر للمنصور، ثم عاودوا القتال، فباشر المنصور القتال بنفسه، وجعل يحمل يميناً وشمالاً، والمظلة على رأسه كالعلم، ومعه خمسمائة فارس، وأبو يزيد في مقدار ثلاثين ألفاً، فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق ونهبوا، وبقي المنصور في نحو عشرين فارساً.
وأقبل أبو يزيد قاصداً إلى المنصور، فلما رآهم شهر سيفه وثبت مكانه وجمل بنفسه على أبي يزيد حتى كاد يقتله، فولى أبو يزيد هارباً، وقتل المنصور من أدرك منهم، وأرسل من يرد عسكره فعادوا، وكانوا قد سلكوا طريق المهدية وسوسة، وتمادى القتال إلى الظهر فقتل منهم خلق كثير وكان يوماً من الأيام المشهودة لم يكن في ماضي الأيام مثله.
ورأى الناس من شجاعة المنصور ما لم يظنوه، فزادت هيبته في قلوبهم، ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ثم عاد إليها فلم يخرج إليه أحد، ففعل ذلك غير مرة، ونادى المنصور: من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار؛ وأذن الناس في القتال، فجرى قتال شديد، فانهزم أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق، ثم رجعت الهزيمة على أبي يزيد، فافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض، وقتل بينهم جمع عظيم، وعادت الحرب مرة لهذا ومرة لهذا، وصار أبو يزيد يرسل السرايا، فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة.
ثم إنه أرسل إلى المنصور يسأله أن يسلم إليه حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور، فإن فعل ذلك دخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه، وحلف له بأغلظ الأيمان على ذلك، فأجابه المنصور إلى ما طلب، وأحضر عياله وسرهم إليه مكرمين، بعد أن وصلهم، وأحسن كسوتهم، وأكرمهم، فلما وصلوا إليه نكث جميع ما عقده، وقال: إنما وجههم خوفاً مني، فانقضت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة؛ ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهم على حالهم في القتال.
ففي خامس المحرم منها زحف أبو يزيد، وركب المنصور، وكان بين الفريقين قتال ما سمع بمثله، وحملت البربر على المنصور وحمل عليها، وجعل يضرب فيهم، فانهزموا منه بعد أن قتل خلق كثير، فلما انتصف المحرم عبأ المنصور عسكره، فجعل في الميمنة أهل أفريقية، وكتامة الميسرة، وهو في عبيده وخاصته في القلب، فوقع بينهم قتال شديد، فحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها، ثم حمل على القلب، فبادر إليه المنصور وقال: هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى! وحمل هو ومن معه حملة رجل واحد، فانهزم أبو يزيد، وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين، وأسلموا أثقالهم، وهرب أبو يزيد على وجهه فقتل من أصحابه ما لا يحصى، فكان ما أخذه أطفال أهل القيروان من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس، وسار أبو يزيد إلى تاه مديت.

.ذكر قتل أبي يزيد:

لما تمت على أبي يزيد وأقام المنصور يتجهز للمسير في أثره، ثم رحل، أواخر شهر ربيع الأول من السنة، واستخلف على البلد مذاماً الصقلي، فأدرك أبا يزيد وهو محاصر مدينة باغاية لأنه أراد دخولها لما انهزم، فمنع من ذلك، فحصرها، فأدركه المنصور وقد كاد يفتحها، فلما قرب منه هرب أبو يزيد وجعل كلما قصد موضعاً يتحصن فيه سبقه المنصور، حتى وصل طبنة، فوصلت رسل محمد بن خزر الزناتي، وهو من أعيان أصحاب أبي يزيد، يطلب الأمان، فأمنه المنصور، وأمره أن يرصد أبا يزيد، واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل البربر ويسمى برزال، وأهله على مذهبه، وسلك الرمال ليختفي أثره، فاجتمع معه خلق كثير، فعاد إلى نواحي مقبرة والمنصور بها، فكمن أبو يزيد أصحابه، فلما وصل عسكر المنصور رآهم فحذروا منهم، فعبأ حينئذ أبو يزد أصحابه، واقتتلوا، فانهزمت ميمنة المنصور، وحمل هو بنفسه ومن معه، فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات، ورحل المنصور في أثره، فدخل مدينة المسيلة، ورحل في أثر أبي يزيد في جبال وعرة، وأودية عميقة خشنة الأرض، فأراد الدخول وراءه المسيلة، ورحل في أثر أبي يزيد في جبال وعرة، وأودية عميقة خشنة الأرض، فأراد الدخول وراءه فعرفه الأدلاء أن هذه الأرض لم يسلكها جيش قط، واشتد الأمر على أهل العسكر، فبلغ عليق كل دابة ديناراً ونصفاً، وبلغت قربة الماء ديناراً، وأن ما وراء ذلك رمال وقفار بلاد السودان، ليس فيها عمارة، وإن أبا يزيد اختار الموت جوعاً وعطشاً على القتل بالسيف.
فلما سمع ذلك رجع إلى بلاد صنهاجة، فوصل إلى موضع يسمى قرية دمره، فاتصل به الأمير زيري بن مناد الصنهاجي الحميري بعساكر صنهاجة، وزيري هذا هو جد بني باديس ملوك أفريقية، كما يأتي ذكره، إن شاء الله تعالى، فأكرمه المنصور وأحسن إليه، ووصل كتاب محمد بن خزر يذكر الموضع الذي فيه أبو يزيد من الرمال.
ومرض المنصور مرضاً شديداً أشفى منه، فلما أفاق من مرضه رحل إلى المسيلة ثاني رجب، وكان أبو يزيد قد سبقه إليها لما بلغه مرض المنصور، وحصرها، فلما قصده المنصور هرب منه يريد بلاد السودان، فأبى ذلك بنو كملان وهوارة وخدعوه، وصعد إلى جبال كتامة وعجيسة وغيرهم، فتحصن بها واجتمع إليه أهلها، وصاروا ينزلون يتخطفون الناس، فسار المنصور عاشر شعبان إليه، فلم ينزل أبو يزيد، فلما عاد نزل إلى ساقة العسكر، فرجع المنصور، ووقعت الحرب فانهزم أبو يزيد، وأسلم أولاده وأصحابه، ولحقه فارسان فعقرا فرسه فسقط عنه، فأركبه بعض أصحابه، ولحقه زيري بن مناد فطعنه فألقاه، وكثر القتال عليه، فخلصه أصحابه وخلصوا معه، وتبعهم أصحاب المنصور، فقتلوا منهم ما يزيد على عشرة آلاف.
ثم سار المنصور في أثره أول شهر رمضان، فاقتتلوا أيضاً أشد قتال، ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان خشونته، ثم انهزم أبو يزيد أيضاً، واحترقت أثقاله وما فيها، وطلع أصحابه على رؤوس الجبال يرمون بالصخر، وأحاط القتال بالمنصور وتواخذوا بالأيدي، وكثر القتل حتى ظنوا أنه الفناء، وافترقوا على السواء، والتجأ أبو يزيد إلى قلعة كتامة، وهي منيعة، فاحتمى بها.
وفي ذلك اليوم أتى إلى المنصور جند له من كتامة برجل ظهر في أرضهم ادعى البربوبية، فأمر المنصور بقتله، وأقبلت هوارة وأكثر من مع أبي يزيد يطلبون الأمان، فأمنهم المنصور، وسار إلى قلعة كتامة، فحصر أبا يزيد فيها، وفرق جنده حولها، فناشبه أصحاب أبي يزيد القتال، وزحف إليها المنصور غير مرة، ففي آخرها ملك أصحابه بعض القلعة، وألقوا فيها النيران، وانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلاً ذريعاً، ودخل أبو يزيد وأولاده وأعيان أصحابه إلى قصر في القلعة، فاجتمعوا فيه، فاحترقت أبوابه وأدركهم القتل، فأمر المنصور بإشعال النار في شعاري الجبل وبين يديه لئلا يهرب أبو يزيد، فصار الليل كالنهار.
فلما كان آخر الليل خرج أصحابه وهم يحملونه على أيديهم، وحملوا على الناس حملة منكرة، فأفرجوا لهم، فنجوا به، ونزل من القلعة خلق كثير، فأخذوا، فأخبروا بخروج أبي يزيد، فأمر المنصور بطلبه وقال: ما أظنه ألا قريباً منا؛ فبينما هم كذلك إذ أتى بأبي يزيد، وذلك أن ثلاثة من أصحابه حملوه من المعركة ثم ولوا عنه، وإنما حملوه لقبح عرجه، فذهب لينزل من الوعر، فسقط في مكان صعب، فأدرك فأخذ وحمل إلى المنصور، فسجد شكراً لله تعالى، والناس يكبرون حوله، وبقي عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فمات من الجراح التي به، فأمر بإدخاله في قفص عمل له، وجعل معه قردين يلعبان عليه، وأمر بسلخ جلده وحشاه تبناً، وأمر بالكتب إلى سائر البلاد بالبشارة.
ثم خرج عليه عدة خوارج منهم محمد بن خزر، فظفر به المنصور سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وكان يريد نصرة أبي يزيد؛ وخرج أيضاً بن أبي يزيد، وأفسد وقطع الطريق، فغدر به بعض أصحابه وقتله، وحمل رأسه إلى المنصور سنة ست وثلاثين أيضاً، وعاد المنصور إلى المهدية، فدخلها في شهر رمضان من السنة.

.ذكر قتل أبي الحسين البريدي وإحراقه:

في هذه السنة، في ربيع الأول، قدم أبو الحسين البريدي إلى بغداد مستأمناً إلى توزون، فأمنه، وأنزله أبو جعفر بن شيرزاد إلى جانب داره، وأكرمه، وطلب أن يقوي يده على ابن أخيه، وضمن أنه إذا أخذ البصرة يوصل له مالاً كثيراً، فوعدوه النجدة والمساعدة، فأنفذ ابن أخيه من البصرة مالاً كثيراً خدم به توزون وابن شيرزاد، فأنفذوا له الخلع وأقروه على عمله.
فلما علم أبو الحسين بذلك سعى في أن يكتب لتوزون، ويقبض على ابن شيرزاد، فعلم ابن شيرزاد بذلك، فسعى به إلى أن قبض عليه، وقيد وضرب ضرباً عنيفاً، وكان أبو عبدالله بن أبي موسى الهاشمي قد أخذ أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه، فأحضرها وأحضر القضاة والفقهاء في دار الخليفة، وأخرج أبو الحسين، وسئل الفقهاء عن الفتاوى، فاعترفوا أنهم أفتوا بذلك، فأمر بضرب رقبته، فقتل وصلب، ثم أنزل وأحرق، ونهبت داره، وكان هذا آخر أمر البريديين، وكان قتله منتصف ذي الحجة.
وفيها نقل المستكفي بالله القاهر بالله من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر، وكان قد بلغ به الضر والفقر إلى أن كان ملتفاً بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب.

.ذكر مسير أبي علي إلى الري وعوده قبل ملكها:

لما استقر الأمير نوح في ولايته بما وراء النهر وخراسان أمر أبا علي ابن محتاج أن يسير في عساكر خراسان إلى الري ويستنقذها من يد ركن الدولة ابن بويه، فسار في جمع كثير، فلقيه وشمكير بخراسان وهو يقصد الأمر نوحاً، فسيره إليه، وكان نوح حينئذ بمرو، فلما قدم عليه أكرمه وأنزله، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه.
وأما أبو علي فأنه سار نحو الري، فلما نزل ببسطام خالف عليه بعض من معه، وعادوا عنه مع منصور بن قراتكين، وهو من أكابر أصحاب نوح وخواصه، فساروا نحو جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان، فصدهم الحسن عنها، فانصرفوا إلى نيسابور، وسار أبو علي نحو الري فيمن بقي معه، فخرج إليه ركن الدولة محارباً، فالتقوا على ثلاثة فراسخ من الري، وكان مع أبي علي جماعة كثيرة من الأكراد، فغدروا به، واستأمنوا إلى ركن الدولة، فانهزم أبو علي، وعاد نحو نيسابور وغنموا بعض أثقاله.

.ذكر استيلاء وشمكير على جرجان:

لما عاد أبو علي إلى نيسابور لقيه وشمكير، وقد سيره الأمير نوح، ومعه جيش فيهم مالك بن شكرتكين، وأرسل إلى أبي علي يأمره بمساعدة وشمكير، فوجه فيمن معه إلى جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان، فالتقوا واقتتلوا فانهزم الحسن، واستولى وشمكير على جرجان في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

.ذكر استيلاء أبي علي على الري:

في هذه السنة سار أبو علي من نيسابور إلى نوح، وهو بمرو، فاجتمع به، فأعاده إلى نيسابور، وأمره بقصد الري، وأمده بجيش كثير، فعاد إلى نيسابور، وسار منها إلى الري في جمادى الآخرة، وبها ركن الدولة، فلما علم ركن الدولة بكثرة جموعه سار عن الري واستولى أبو علي عليها وعلى سائر أعمال الجبال، وأنفذ نوابه إلى الأعمال، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة.
ثم إن الأمير نوحاً سار من مرو إلى نيسابور، فوصل إليها في رجب، وأقام بها خمسين يوماً، فوضع أعداء أبي علي جماعة من الغوغاء والعامة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور وعاد عنها إلى بخارى في رمضان، وكان مرادهم بذلك أن يقطعوا طمع أبي علي عن خراسان ليقيم بالري وبلاد الجبل، فاستوحش أبو علي لذلك، فإنه كان يعتقد أنه يحسن إليه بسبب فتح الري وتلك الأعمال، فلما عزل شق ذلك عليه، ووجه أخاه أبا العباس الفضل ابن محمد إلى كور الجبال، وولاه همذان، وجعله خليفة على من معه من العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها، واستأمن إليه رؤساء الأكراد من تلك الناحية، وأنفذوا إليه رهائنهم.

.ذكر وصول معز الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في هذه السنة، آخر رجب، وصل معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى مدينة واسط، فسمع توزون به، فسار هو والمستكفي بالله من بغداد إلى واسط، فلما سمع معز الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان، ووصل الخليفة وتوزون إلى واسط، فأرسل أبو القاسم البريدي يضمن البصرة، فأجابه توزون إلى ذلك وضمنه، وسلمها إليه، وعاد الخليفة وتوزون إلى بغداد، فدخلاها ثامن شوال من السنة.

.ذكر ملك سيف الدولة مدينة حلف وحمص:

في هذه السنة سار سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان إلى حلب، فملكها واستولى عليها، وكان مع المتقي لله بالرقة، فلما عاد المتقي إلى بغداد، وانصرف الإخشيد إلى الشام، بقي يأنس المؤسي بحلب، فقصده سيف الدولة، فلما نازلها فارقها يأنس وسار إلى الإخشيد، فملكها سيف الدولة، ثم سار منها إلى حمص، فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج، صاحب الشام ومصر، مع مولاه كافور، واقتتلوا، فانهزم عسكر الإخشيد وكافور، وملك سيف الدولة مدينة حمص، وسار إلى دمشق فحصرها، فلم يفتحها أهلها له فرجع.
وكان الأخشيد قد خرج من مصر إلى الشام وسار خلف سيف الدولة، فالتقيا بقنسرين، فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلما عاد الإخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب، ولما ملك سيف الدولة حلب سارت الروم إليها، فخرج إليهم، فقاتلهم بالقرب منها، فظفر بهم وقتل منهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، ثامن جمادى الأولى، قبض المستكفي بالله على كاتبه أبي عبدالله بن أبي سليمان وعلى أخيه، واستكتب أبا أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي على خاص أمره، وكان أبو أحمد لما تقلد المستكفي الخلافة بالموصل يكتب لناصر الدولة، فلما بلغه خبر تقلده الخلافة انحدر إلى بغداد لأنه كان يخدم المستكفي بالله، ويكتب له، وهو في دار ابن طاهر.
وفيها، في رجب، سار توزون ومعه المستكفي بالله من بغداد يريدان الموصل، وقصد ناصر الدولة لأنه كان قد أخر حمل المال الذي عليه من ضمان البلاد واستخدم غلماناً هربوا من توزون، وكان الشرط بينهم أنه لا يقبل أحداً من عسكر توزون.
فلما خرج الخليفة وتوزون من بغداد ترددت الرسل في الصلح، وتوسط أبو جعفر بن شيرزاد الأمر، وانقاد ناصر الدولة لحمل المال، وكان أبو القاسم ابن مكرم، كاتب ناصر الدولة، هو الرسول في ذلك، ولما تقرر الصلح عاد المستكفي وتوزون فدخلا بغداد.
وفيها في سابع ربيع الآخر قبض المستكفي على وزيره أبي الفرج السرمرائي، وصودر على ثلاثمائة ألف درهم، وكانت مدة وزارته اثنين وأربعين يوماً. ثم دخلت: